تونس- من الدولة الخادمة للشعب إلى الشعب الخادم للدولة؟

المؤلف: جمال الطاهر10.02.2025
تونس- من الدولة الخادمة للشعب إلى الشعب الخادم للدولة؟

بعد انقضاء الانتخابات الرئاسية في تونس في السادس من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، يسود الفضاء التونسي هدوء لافت، ويكاد يكون مسرحًا خاليًا لا يملؤه سوى الرئيس قيس سعيد.

لم تشهد تونس وضعًا مشابهًا أو قريبًا من هذا خلال أي حقبة سابقة، سواء في العصور الاستبدادية تحت حكم بورقيبة وبن علي، أو حتى في عقد الحريات والديمقراطية الذي شهد توزيعًا للسلطة بين المركز والمحليات.

يبدو المشهد الحالي وكأن تحولات جمة قد طرأت خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حكم قيس سعيد المطلق، مما أثر بعمق على النظام السياسي والمجتمع المدني. تطرح هذه التطورات سؤالًا جوهريًا قد يختصر الإجابة عليه كل ما يتعلق بحاضر تونس ومستقبلها.

السؤال المحوري هو: هل أعاد قيس سعيد مقاليد الدولة إلى الشعب لتكون في خدمته حقًا، أم أنه أخضع الشعب لخدمة دولة اختزل أبعادها ومساحاتها في شخصه فقط؟

مفارقات

برز قيس سعيد في المشهد العام خلال السنوات الأولى من المرحلة الانتقالية الديمقراطية كخبير في القانون الدستوري. في تلك الفترة، كان يجوب المنابر الإعلامية بحرية للإدلاء بآرائه، خاصة فيما يتعلق بالقضايا المتصلة بدستور الثورة (2014).

لم يكن يعبر آنذاك عن فكر يتعارض مع الآراء السائدة في المجلس الوطني التأسيسي بشأن القضايا الدستورية الكبرى، بل كان من المدافعين عن بعض فصوله، بما في ذلك الفصل المتعلق بحرية الضمير وتجريم التكفير، بالإضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بالنظام السياسي والعلاقة بين السلطات.

تجسد انسجام قيس سعيد مع دستور 2014 عندما عارض اقتراح سلفه الراحل الباجي قائد السبسي في عام 2016 بشأن الاستفتاء وتعديل الدستور، معتبرًا آنذاك أن "المبادرة تمس بمكانة الدستور وتفتح الباب أمام تعديله بتغير التوازنات السياسية". وأطلق حينها عبارة قانونية بالغة الأهمية: "ما قيمة الدساتير إن كانت تتغير بمجرد تغير التوازنات"؟

لم يمكث قيس سعيد طويلًا في عباءة الخبير الدستوري، وسرعان ما تحول إلى سياسي يطرح جملة من الأفكار "المبتكرة" التي تدعو إلى "تأسيس جديد" للدولة والمجتمع.

دون الخوض في تفاصيل "العرض السياسي" الذي قدمه قيس سعيد آنذاك، يمكن تلخيص ملامحه الأساسية في سلسلة من النقاط التي أكد سعيد أنها ستفتح صفحة جديدة في التاريخ، بما في ذلك البناء القاعدي الذي سيغير مسار القرار من المستوى المحلي إلى المركزي، بدلًا من المسار التقليدي من المركز إلى المحليات. وكذلك التأكيد على أن الدستور هو ما خطه الشباب على الجدران، وأن برنامج الحكم يحدده الشعب، بينما يقتصر دور الحاكم على توفير الآليات القانونية اللازمة لتحقيق رغبات الشعب.

يتطلب هذا "التأسيس الجديد" من وجهة نظر سعيد إلغاء الانتخابات التشريعية والمجلس التشريعي، وإلغاء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من خلال تهميشها والتضييق عليها، وإزالة جميع الأجسام الوسيطة لكي تصبح العلاقة بين ممثلي الشعب المحليين والحكم المركزي علاقة مباشرة.

بعد مرور ثلاث سنوات من الحكم المطلق، وفي أعقاب انتخابات رئاسية (2024) شابتها العديد من المخالفات والتجاوزات التي جعلت منها أقرب إلى "بيعة" منها إلى انتخابات تنافسية – بيعة أقلية (28.8%) في ظل غياب الأغلبية (71.2%) – بدأت تتضح معالم المسار الذي تنتهجه تونس في ظل حكم قيس سعيد.

مسار من التدحرج المتواصل

هناك مؤشرات عديدة على هذا المسار، وسنركز على أهمها، وهي أربعة: الاستفتاء وتعديل الدستور، النظام السياسي، منهج الحكم، وبرنامج الحكم.

1- الاستفتاء وتعديل الدستور: من الاعتراض إلى الاعتماد

كان قيس سعيد، الخبير في القانون الدستوري، من أشد المعارضين للاستفتاء وتعديل الدستور. وفي مقابلة له مع القناة الوطنية الأولى في التلفزيون التونسي في 28 أبريل/نيسان 2013، صرح قائلًا: "إن الاستفتاء، بقدر ما يمكن أن يكون أداة لتحقيق الديمقراطية، قد يكون أيضًا أداة شكلية لإضفاء الشرعية على مجموعة من الخيارات التي تم اتخاذها وحسمها مسبقًا".

وفيما يتعلق بتعديل الدستور، قال: "لست أنا من يقرر، بل السلطة التشريعية هي من تقرر تعديل الدستور من عدمه وتتحمل مسؤولية ذلك. أنا لست مشرعًا".

هكذا بدا قيس سعيد متسقًا مع الخيار الديمقراطي حتى عام 2019، وهو العام الذي انتخب فيه رئيسًا للجمهورية التونسية، لينتقل من خبير في القانون الدستوري يلتزم بالنهج الديمقراطي ودستور الثورة (2014) إلى سياسي مناور انخرط في أتون السياسة وبدأ يسعى إلى ترسيخ حكمه من داخل المنظومة أولًا، ثم من خارجها ثانيًا، حتى حانت لحظة 25 يوليو/تموز 2021 التي انقلب فيها على نفسه، كما انقلب على الدستور الذي أقسم على احترامه، وأدخل البلاد في حالة استثنائية تتجاوز أي شرعية بخلاف شرعية الأمر الواقع.

بعد أسابيع قليلة من انقلابه، وتحديدًا في 22 سبتمبر/أيلول 2021، أصدر المرسوم الرئاسي رقم 117 الذي أعلن فيه عن الإجراءات الاستثنائية التي سيدير بها البلاد بعد أن علّق عمل مجلس نواب الشعب، وجمّد صلاحياته التشريعية، وحلّ الحكومة، وبقي يدير شؤون الحكم منفردًا من خلال المراسيم.

لم يكتفِ قيس سعيد بذلك، بل أعلن عن تشكيل لجنة من الخبراء في القانون الدستوري أوكل إليها مهمة إعداد مشروع دستور جديد، ثم لم يجد لاحقًا أي حرج في إلقاء هذا المشروع في سلة المهملات ليخرج من درج مكتبه الرئاسي مشروع دستور كتبه بنفسه ولنفسه.

وفي خطوة أخرى من التدحرج، دعا قيس سعيد التونسيين إلى استفتاء على دستوره في 25 يوليو/تموز 2022، وهو الاستفتاء الذي لم يشارك فيه سوى 27.54% من الناخبين المسجلين، وفقًا لتصريحات هيئة الانتخابات، وبذلك تجاوز سعيد مجرد تعديل دستور 2014 إلى استبداله بدستور جديد بالكامل.

2- النظام السياسي: من الديمقراطية التمثيلية إلى التمثيل القاعدي

تولى قيس سعيد منصبه في عام 2019 رئيسًا في نظام سياسي برلماني مختلط، يشكل فيه كل من الحكومة والبرلمان مركز الثقل، ويتمتع فيه رئيس الجمهورية بسلسلة من الصلاحيات في مجالات حيوية وهامة، مثل الأمن القومي والدبلوماسية والدفاع، بالإضافة إلى أولوية نظر مجلس النواب في مشاريع القوانين التي يقدمها.

لكن سرعان ما بدأ كرسي الرئاسة يضيق بقيس سعيد، وبدأ طموحه يزداد في توسيع نفوذه في منظومة الحكم وتأثيره في المشهد السياسي العام، مستغلًا أزمة كوفيد-19، وارتباك الحكومة في إدارتها، والصعوبات الاقتصادية، وأخطاء السياسيين والصراعات في مجلس النواب، ليجعل من كل ذلك أزمة حادة اعتمدها مبررًا لقيامه بانقلابه في 25 يوليو/تموز 2021.

لم يكن حرص قيس سعيد على توسيع نفوذه يهدف إلى إصلاح الأوضاع تحت سقف دستور 2014 وضمن النظام السياسي البرلماني المختلط، بل اتضح أنه استغل الظروف وأدوات الحكم لابتداع سردية الخطر الداهم الذي يمثله البرلمان أولًا، ثم الخطر الجاثم على الدولة منذ عقود ثانيًا، ليسير بخطى حثيثة نحو تأسيس واقع سياسي جديد بنظام رئاسي خالص وتمثيل قاعدي.

3- منهج الحكم: من محورية المحلي إلى مركزية مغلّظة

عمل قيس سعيد على تبرير منهجه في الحكم بالتشديد على إعادة الشعب إلى صميم العملية السياسية من خلال البناء القاعدي المحلي، وبأن يكون مسار اتخاذ القرار منطلقًا من المستوى المحلي نحو المركزي، بدلًا من المسار التقليدي المعاكس.

لكن هذه الصورة الوردية التي روج لها قيس سعيد في خطابه السياسي لم تكن سوى شعار ظل معلقًا، في حين أن ممارسته للحكم اتجهت نحو ترسيخ نظام رئاسوي يجمع فيه الرئيس كل الصلاحيات والسلطات، ولا يترك للمحليات أي دور حقيقي سوى من باب التجميل لا أكثر.

خير دليل على ذلك هو أن المجلس الوطني للجهات والأقاليم، الذي تم انتخابه منذ نحو عام، لا يزال يفتقر إلى قانون ينظم أعماله ويحدد علاقته بالبرلمان، ويبين موقعه في مسار اتخاذ القرار، باستثناء بعض الفصول العامة الواردة في دستور 2022. في المقابل، اشتمل دستور 2014 على باب كامل (الباب السابع) ومنظومة قانونية متكاملة أرست أسس الحكم المحلي باعتباره فاعلًا تنمويًا محليًا يقوم على الديمقراطية التشاركية ضمن الخيار الديمقراطي العام في البلاد.

يوحي السلوك السياسي لقيس سعيد وأسلوبه في إدارة الحكم بأنه لا يولي أي اعتبار للمحليات في قراراته، إذ لم يقتصر الأمر على تهميش عمل الحكومة والوزارات والإدارات، بل تجاوزه إلى إلغاء دور المحافظين (الولاة) والمعتمدين والإدارات الجهوية من خلال زياراته المتكررة إلى بعض المناطق والمحليات واتخاذه القرارات في كل شيء.

4- برنامج الحكم: من الشعب يريد إلى ما أُريكم إلا ما أريد

ربما استمد قيس سعيد جاذبيته السياسية من خلال رفعه شعار "الشعب يريد وهو يعرف ما يريد"، والتأكيد على أن دور الحاكم يقتصر على تزويد الشعب بالأدوات القانونية التي تمكنه من تحقيق ما يصبو إليه. بيد أن المسيرة السياسية لقيس سعيد منذ انقلابه في 25 يوليو/تموز 2021 تؤكد بوضوح أن هذا الشعار لم يكن أكثر من مجرد كلام للاستهلاك الانتخابي، وأن المسار الذي انتهجه سعيد في إدارة الحكم يتعارض تمامًا مع هذا الشعار.

تجاهل سعيد مطالب الشعب، وتبنى لنفسه أجندة سياسية تهدف إلى ترسيخ حكمه وإقصاء المنافسين والمعارضين السياسيين والمدنيين. ولم يعد سعيد يتحدث إلا عن الخونة والعملاء ووكلاء الاستعمار والدوائر الصهيونية.

تقتصر أغلب لقاءاته على وزيري العدل والداخلية، في حين ظلت القضايا الاجتماعية والمعيشية للمواطنين خارج دائرة اهتمامه، على الرغم من تصاعد أصوات المواطنين بسبب تدهور قدرتهم الشرائية ومعاناتهم اليومية في طوابير الانتظار للحصول على المواد الأساسية التي تكرر اختفاؤها من الأسواق، فضلًا عن الارتفاع الجنوني المتواصل في الأسعار، بالإضافة إلى التراجع الكبير في خدمات المرفق العام في النقل والصحة والتعليم.

سعيد: ردّة لا أفق لها

ربما نجح قيس سعيد، القادم من خارج الحقل السياسي والذي يفتقر إلى أي تاريخ سياسي أو نضالي، في تقويض مكاسب الثورة والانتقال الديمقراطي فكرًا وقيمًا ومؤسسات ورموزًا، وفرض تغيير قسري لهيئة الدولة من خلال دستوره (2022). غير أن هذا النجاح الزائف يخفي انتكاسة كبيرة وقع فيها وأوقع فيها البلاد، تجسدت في:

  1. ترسيخ حكم رئاسوي استبدادي شديد التمركز حول شخص الرئيس يتمتع بصلاحيات واسعة، مما أنهى نظامًا ديمقراطيًا ناضلت من أجله أجيال من التونسيين على مدى عقود.
  2. إلغاء الأجسام الوسيطة من مؤسسات دستورية رقابية وتعديلية، وأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والإعلام، بعد أن كان هذا الفضاء السياسي والمدني، رغم نقائصه، مفخرة لتونس باعتباره شريكًا في إدارة الشأن العام وسلطة تعديلية ورقابية.
  3. إجهاض تجربة الحكم المحلي التي استقطبت في انتخاباتها الأولى عام 2018 الآلاف من الكفاءات التونسية المحلية من النساء والرجال والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة. تم استبدال هذه التجربة بمنظومة معقدة تفتقر إلى قوانين واضحة تنظمها.
  4. تحويل التونسيين إلى رعايا بلا أحزاب ولا منظمات تستوعبهم وتؤطرهم وتنظم حياتهم كمواطنين، مقابل التركيز على حشد مناصريه فقط في تنسيقيات خاصة بهم، وفي شركات أهلية أطلق لها العنان للاستئثار بموارد الدولة المالية والعقارية دون أي ضمانات.
  5. حالة العزلة الدولية التي أوصل إليها تونس نتيجة لسياسة خارجية أدخلتها في لعبة المحاور وأفسدت علاقاتها مع العديد من الأشقاء والأصدقاء، بالإضافة إلى سياسة داخلية قوامها الاعتداء على الحريات والحقوق، وإخلاء الساحة من المعارضين، وتكميم الأفواه.

انزلقت تونس مع قيس سعيد إلى العزلة بعد أن كانت نموذجًا لتجربة الانتقال الديمقراطي التي حققت العديد من النجاحات والمكاسب، على الرغم من صعوبات المرحلة وإخفاقاتها.

أضعفت هذه الردة وهذا التدهور المتتالي البلاد وأفقدتها الكثير من مقومات بناء دولة مستقرة تسمح بتحقيق التنمية المنشودة. وجعل ذلك مستقبل تونس ضبابيًا، وفتح الباب واسعًا أمام عزوف المواطنين عن الاهتمام بالشأن العام، ودفع الكفاءات التونسية من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين وقضاة إلى الهجرة، كما أجبر رجال الأعمال إما على الانكماش والتوقف عن الاستثمار أو إغلاق شركاتهم ومغادرة البلاد.

إذا استمر هذا المسار على ما هو عليه، فقد لا يتوقف قطار الردة والتدهور إلا بانتفاضة شعبية تضع حدًا لأجندة شخصية في الحكم لا يلتف حولها إلا أقلية تتضاءل يومًا بعد يوم، في ظل غياب أغلبية عبرت بصمتها عن خيبة أمل كبيرة في قيس سعيد وقدرته على تغيير حياتهم نحو الأفضل.

تبدو خيبة قيس سعيد واضحة في "نجاحاته" الشخصية التي استولى من خلالها على الدولة وأجهزتها ووضع يده عليها، بينما قامت الثورة أساسًا لإعادة الدولة إلى الشعب. فهل سيتمكن قيس سعيد من إكمال ولايته الرئاسية الثانية التي بدأت في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2024؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة